حوارة غارنيكا*

عبد الحسين شعبان**

 

       هل يعيدنا ما حصل في بلدة حوّارة الفلسطينية إلى ما حصل في مدينة غارنيكا الإسبانية؟ فمن يتفحّص جدارية بيكاسو “غارنيكا” يدرك مدى المأساة التي حلّت بتلك المدينة الوديعة الآمنة في إقليم الباسك شمال إسبانيا. وهنا لا بدّ له أن يقارن ما يحصل اليوم في حوّارة من عنف منفلت من عقاله تعتّق على مدى ثلاثة أرباع قرن من الزمن واستحكم في نظام الأبرتايد ليتحوّل إلى عنف أساسه الإبادة والاستئصال.

       ما حصل في حوّارة يوم 26 شباط / فبراير 2023 وما بعده يذكّرنا بما حصل في غارنيكا في 26 نيسان / أبريل 1937، إذْ اقتحم نحو 400 مستوطن البلدة وأصابوا نحو 100 فلسطيني آمن من سكّانها، وأحرقوا 35 منزلًا بشكل كامل و40 منزلًا بشكل جزئي ونحو 100 سيارة. 

وفي غارنيكا قبل 86 عامًا غارت القوات الألمانية (النازية) والقوات الإيطالية (الفاشية) على المدينة وأنزلت حمولتها على رؤوس أبنائها الآمنين، في نوبة هستيرية محمومة دعمًا للقوميين المتعصّبين ضدّ حكم الجمهوريين في الحرب الإسبانية، راح ضحيّتها عدّة مئات بعضهم قُتل في الحال وبعضهم فارق الحياة متأثّرًا بجراحه بعد بضعة أيام. ولعلّ ما يحصل اليوم في حوّارة هو أشبه بزلزال عنفي ترافق مع موجة الزلازل التي ضربت المنطقة.

       وإذا كان توجّه تيار الأبرتايد “الإسرائيلي” يقوم على التمييز السياسي والاستغلال الاقتصادي والتهميش الاجتماعي إزاء الفلسطينيين الذين ظلّوا متشبّثين بالبقاء في أرضهم، فإن التيّار الشعبوي الصاعد يريد اقتلاعهم وترحيلهم أو إبادتهم. وقد تضمّنت صفقة القرن 2020 مشروع إعادة فرض “السيادة الإسرائيلية” على كامل فلسطين، وأن أي كيان فلسطيني يمكن إقامته الآن أو في المستقبل سيكون تحت هذه السيادة وتوجّهها. ومثل هذا التقدير أصبح اليوم المهيمن على الحكومة الحالية برئاسة بنيامين نتنياهو، وإن كان الأخير يميل إلى التدرّج والمرحلية لتهجير الفلسطينيين.

       وارتفعت خلال الفترة الأخيرة شعارات “الموت للعرب” و”الموت للمخربين” والمقصود الفلسطينيين، خصوصًا خلال انتخابات نوفمبر / تشرين الثاني 2022، وذلك تمهيدًا لإطلاق العنان للقيام بأعمال العنف والاستئصال على يد المستوطنين المتعصّبين والمتطرّفين وبحماية وتشجيع من الأجهزة الأمنية والعسكرية الرسمية، بحيث يُعتبر مجرّد أي رد فعل فلسطيني مقاوم لمثل تلك التوجّهات “إرهابًا”. والغرض هو إعادة محو قرى وبلدات فلسطينية بكاملها كما حصل في العام 1948، وهو ما تفصح عنه بروفة إبادة حوّارة وتكرار محاولات اقتحام الأقصى، والتوسّع في هدم المنازل وفرض عقوبات الإعدام وسحب الجنسية وحق الإقامة وتكثيف الاستيطان.

 وقد وصف بتسلئيل سموتريتش وزير المالية “الإسرائيلي” ما حصل في حوّارة بأنه تجربة ناجحة مع تأكيده على ضرورة أن تُنفّذ على أيدي جيش الاحتلال (بمعنى أن تكون أكثر تنظيمًا وحسمًا من تنفيذها عبر المستوطنين).

       إن ما حصل في حوّارة هو بمثابة ناقوس خطر، خصوصًا في ظلّ حكومة هي الأشد تطرّفًا في “إسرائيل”، تقوم سياستها على الضمّ و”الأسرلة” وطرد الفلسطينيين من أرضهم. وإذا كان التمسّك بحق الوجود والتشبّث بالأرض ومقاومة محاولات الإلغاء واجباً على الفلسطينيين، فإن عدم الانجرار إلى تديين الصراع كما تريد الجماعات الأشد تطرّفًا، هو الآخر واجب وطني وعروبي أيضًا، لأن الصراع ليس حول قيم السماء وإنما هو حول قيم الحق والعدالة والإنسانية، وهو ما يتطلّب وحدة وطنية فلسطينية ودعمًا عربيًا وتضامنًا دوليًا.

       ومثلما شغلت جدارية بيكاسو “غارنيكا” العالم، فإن بلدة حوّارة التي تتبع مدينة نابلس إحدى أكبر محافظات شمال الضفّة الغربية بدأت تتصدّر عناوين الأخبار وتنتشر صورها المأساوية عالميًا على مواقع التواصل الاجتماعي بما يُرهق الضمير العالمي، خصوصًا الدعوة العنصرية الاستفزازية المثيرة للاشمئزاز لمحوها من الوجود، الأمر الذي أثار ردود فعل إنسانية واسعة على الصعيد الشعبي، والذي يفترض اتخاذ إجراءات من جانب الأمم المتحدة للتدخّل الإنساني لوقف المأساة ومنع المستوطنين المتطرفين ومن يقف خلفهم من تنفيذ فعلتهم النكراء.

       لقد استوحى بيكاسو جداريته من الكارثة التي حلّت بالمدينة، مستلهمًا اسمها من شجرة الغارنيكا رمز الحريّة، وظلّ العالم يستعيدها وسيتذكرها منذ أن عُرضت الجدارية في الجناح الإسباني الدولي للتقنيات والفنون في الحياة المعاصرة في باريس العام 1937، ومنها أصبحت الغارنيكا معلمًا رمزيًا ليس لتنشيط الذاكرة حسب، بل شاهدًا قائمًا ومستمرًا ودليلًا على وحشية وشراسة وغدر القوى المتعصّبة والمتطرّفة، وهو الأمر الذي يحصل اليوم في بلدة حوّارة وجنين وعموم فلسطين.

       في الغارنيكا انتصر الفن على الحرب واللوحة على العنف والحرية على القهر، وأيًّا كانت المقاربات، فاسم حوّارة أصبح رمزًا للحريّة والحق والسلام في مواجهة القسوة والظلم واللّاإنسانية. فمتى تحرّك حوّارة وأخواتها ضمائر العالم لتأكيد عدالة قضية الشعب العربي الفلسطيني ولتنتصر له في لجم دعاة الحرب والإبادة والاستئصال.

*نشرت في جريدتي الخليج (الإماراتية) والزمان (العراقية) في 14 – 15 آذار / مارس 2023.

**مفكر عربي معاصر واسع النشاط والتأثير من العراق الشقيق.

المصدر haramoon – منصة حرمون :

اترك تعليقا
آخر الأخبار
جذور مافيات التسول وسرقة الأطفال وبيعهم.. ماذا كشف "الصندوق الأسود" للبتاويين الدفاع تنعى ضابطا ومنتسبين استشهدوا بتعرض إرهابي بغداد اليوم تنشر اسماء الشهداء والجرحى بالتعرض بين ديالى وصلاح الدين استنفار على حدود ديالى - صلاح الدين بعد استشهاد ضابط واصابة منتسبين اثنين استشهاد ضابط واصابة اثنين في الجيش بتعرض لداعش بين ديالى وصلاح الدين مدير تربية ميسان يعفي مدير ومعاون مركز امتحاني وأربعة مراقبين وزير الإعمار يوجه بتكثيف الجهود لإنجاز مجاري 4 محافظات بأسرع مدة ممكنة نائب: موجة فيضان دجلة اولى ثمار اجتماع اردوغان في بغداد- عاجل وزير الإعمار يوجه بتكثيف الجهود لانجاز مجاري 4 محافظات بأسرع مدة ممكنة استدراج داعشي خطير جنوبي بغداد والقبض عليه بكمين محكم رئاسة مجلس النواب تحدد موعد جلسة انتخاب رئيس البرلمان نائب يكشف عن خطة لتحويل البتاويين الى رئة بغداد محلل سياسي عن التيار الصدري: ليس له منافس يأكل من جرفه في الانتخابات التربية تباشر بمنح عدم الممانعة الى المقبولين لإكمال الدراسات العليا الهجرة: إطلاق استمارة إلكترونية لموظفي الكورد الفيليين السوداني: أحد أهم معايير رفع الكفاءة هو مواجهة الفساد وزير التربية يشدد على متابعة الطلبة من قبل الإدارات المدرسية التربية تصدر توجيها جديدا بشأن درجة الامتحانات وتمنع اعادة النظر في الدفاتر.. وثيقة العراق يحتل المرتبة السابعة في استيراد الكرز من تركيا التربية تصدر تنويها بشأن درجة الامتحانات النهائية وثيقة أحدث نقلة نوعية.. أول طبيب عراقي يجد حلا لمشكلة صعبة عالميا السوداني يرأس الاجتماع الأول للجنة العليا للتحول الرقمي مع قرب الصيف.. تأكيدات على متابعة ومراقبة الأماكن الترفيهية في بغداد النزاهة تحث مجالس المحافظات على عدم مخالفة الصلاحيات وتجنب تضارب المصالح ممثل الكرد في ديالى محذرا: تهميش المكون سيخلق حكومة "غير شرعية"