لا تكن مطية لأحد

 

أديب كريّم*

   عند ظهيرةِ أحدِ أيامِ الجمعة، اتّصل بي جاري الأربعينيُّ، الملقّبُ بالعقيدِ، والمسؤولُ الإعلاميُّ في المنطقةِ، طالباً منّي الحضورَ لمرافقتِهِ والالتحاقَ بتظاهرةٍ أمام إحدى السفاراتِ الأجنبيّةِ؛ المتّهمةِ بتصديرِ الإرهابِ والتدخّلِ السافرِ في شؤونِ البلاد.

لبيّتُ النداءَ دون أدنى تردّد. وكيف لا؟ وهو أحدُ أبرزِ الرموزِ النضاليّةِ التي تأثّرتُ بها منذ صباي.

خلال عشرِ دقائق، وصلنا المكان. ترجّلنا من السيّارةِ وشعورٌ بالتباهي يغمرني، من رأسي حتّى أصابع قدميّ.

أنا برفقةِ العقيد!

   اتّجهت الأنظارُ نحونا، التهبت مشاعرُ الحماسةِ، بدأت أعدادٌ كبيرةٌ تتقاطرُ من كلِّ حدَبٍ وصوب.

تكتّلَ الحشدُ، وشرعت الحناجرُ الملتهبةُ تهتفُ وتزعقُ، والقبضاتُ الحاميةُ ترتفعُ عاليًا، والشعاراتُ تملأ سماءَ البحرِ والبرّ.

وعلى الإثرِ، ساد جوٌّ من الهرَجِ والمَرَج، لا سيّما حين حاول بعضُ المتحمّسين تجاوزَ الموانع والاقترابَ من فناءِ السفارة.

ربعُ ساعةٍ انقضت، رأينا وسائلَ الإعلامِ تتقاطر على المكان. اقتربت إحداها من العقيد. على الفورِ، سارعَ وهمسَ لي بأن أمنعها من الدنوِّ أكثرَ كي لا يظهر وجهُهُ في الإعلام.

نفّذتُ وأبعدتُها. 

   بعد ساعتينِ تقريبًا، هدأ كلُّ شيءٍ، وتفرّقَ الحشدُ، وأوصلتِ التظاهرةُ، حسبَ قولِ العقيد، الرسالةَ المطلوبة.

في طريقِ عودتِنا، ورغم أنّي كنتُ مقتنعًا بأنّ ما حدثَ مع وسيلةِ الاعلامِ كان لدواعٍ أمنيّةٍ، لكن فضولي المُتعِبُ، دومًا، دفعني إلى القول:

توقّعتُ أن تستغلَّ وسيلةَ الإعلامِ لإيصال الرسالة بشكل مباشرٍ عِوَض أن تنأى بنفسِكَ عنها. 

بعد أن أشعلَ سيجارتَهُ، علّقَ قائلًا: لقد قدّمتُ، منذ شهرٍ تقريبًا، طلبَ لجوءٍ عائليٍّ في هذه السفارةِ، وأخشى، إذا ظهر وجهي في الإعلام، أن يرفضوا الطلبَ ويتلاشى حلمي. هذا كلّ ما في الأمر. وأرجو منك ألّا تذيعَ الخبر.

تعليقُهُ الباردُ نزلَ عليّ كالصاعقةِ المحرِقَةِ.

حدّثتُ نفسي وأنا في ذروةِ صدمتي وخيبتي: كيف تستقيمُ الأمورُ على هذا النحوِ الغريبِ والمتناقضِ والمحيّر؟

العقيدُ يقدّمُ طلبَ لجوءٍ إلى سفارةِ دولةٍ، لطالما صدّعَ رأسي وهو يحدّثني عن ظلمِها وإرهابِها!؟

ولجتُ البيتَ، وبثثتُ الفرحةَ بين أفرادِ عائلتي.

أريدُ أن أسافر.. أجل، قرّرتُ أن أسافرَ بعيدًا عن هذه البلاد.

أمّي، اتّصلي بخالي وقولي له أن يجهّزَ لي المستنداتِ اللازمة.

تهلّلَ وجهُها فرحًا، وقالت، بعد أن أنهت زغردَتَها: وأخيراً تحقّقَ حلمي، وزال الخوفُ الذي كان يضغط على روحي.

شرحتُ لهم ما جرى. ابتسمَ الوالدُ، وقال بعد تنهيدةٍ عميقة: قلتُها لكَ سابقًا واليومَ أكرّرها: لا تكن مطيّةً لأحد، حتّى لقريبِكَ أو نسيبِك.

بعد أسبوعٍ، اتّصلَ العقيدُ. لقد صدرَ المنشورُ السياسيُّ الأسبوعيُّ، وينبغي توزيعه.

اعتذرتُ منه، وكانت هي المرّةُ الأولى التي أشقُّ فيها عصا الطاعةِ الحزبيّة. وحين استعلمني، قلتُ له: عزمتُ على أن أحتذي بكَ وأهاجر. فهذه البلادُ لم تعد صالحةً لتحقيقِ الأمنيات.

بعد شهرٍ، تركتُ كلّ شيءٍ خلفي ورحلت.

أرحتُ عائلتي من التوتّرِ الدائمِ.

عدتُ إلى مقاعدِ الدراسةِ، علّقتُ شهادتي على الجدار، تزوّجتُ، شعرتُ بالأمان، وحظينا، أنا وزوجتي وأولادي الثلاث، بكامل حقوقِنا.

   عشرُ سنواتٍ تصرّمت على مكوثي هناك، وصلني خبرٌ محزنٌ للغاية.

إبنُ العقيد، أصابته رصاصةٌ طائشةٌ في رأسِهِ، وفارقَ الحياةَ من فورِه.

قوانينُ الحياةِ لا تلعبُ النّرد، إمّا أن نكونَ متصالحينَ مع مبادئِنا وإمّا سوف نغرقُ في دوّامةٍ لا قرار لها ..!

*روائي من لبنان.

المصدر haramoon – منصة حرمون :

اترك تعليقا
آخر الأخبار
العوادي يشدد على دور العشائر في مساندة الداخلية بمحاربة المخدرات والسلاح المنفلت (فيديو) بغداد اليوم تنشر يوم غد الاربعاء نتائج السادس الابتدائي تربية الرصافة الأولى تعلن نتائج امتحانات السادس الابتدائي غدا اندلاع حريق داخل هيئة التقاعد الوطنية في بغداد اعتقال أربعة من تجار المخدرات في النجف النقل تعلن دخول تقليص الاجواء المخصصة للطيران العسكري حيز التنفيذ سعي برلماني لخفض أسعار اللحوم في العراق الدفاع النيابية تحدد 3 أسباب لحرائق الحنطة في العراق بالوثيقة.. إلغاء جميع لجان التخويل والتمليك في صحة ذي قار الرافدين يعلن اطلاق عملية بيع الدولار الى الحجاج الرشيد يوجه فروعه ببيع الدولار للحجاج حصرا بواقع 3000 دولار وبالسعر الرسمي النزاهة تكشف مخالفات بقيمة نصف مليار دينار في واسط النزاهة تكشف مخالفات بإنجاز أعمال ترميم بنايتين مدرسيتين في واسط المباشرة بتطبيق نظام" السيل الكمركي" في العراق مطلع حزيران المقبل لأول مرة.. إطلاق استمارة الكترونية للحصول على قطعة ارض سكنية في بابل الاستخبارات والامن تطيح بـ"إرهابيين" في كركوك والسليمانية انطلاق الامتحانات الوزارية للثالث المتوسط أزمة "الماء والكهرباء" .. حكومة بغداد تتحدث عن إنتهاء "الكابوس"- عاجل الاطاحة بأربعة متهمين يوهمون المواطنين بالتعيين على ملاك الامن الوطني أبرزها قانون الانتخابات.. نائب يتحدث عن قوانين مهمة معطلة بسبب التأخير باختيار رئيس البرلمان المحكمة الاتحادية ترد دعوى رئيس حكومة الاقليم وتلغي أمرا ولائيا رئاسة مجلس النواب تسلم موازنة 2024 جنايات ذي قار: الاعدام بحق ارهابيين عن جريمة خطف وقتل مواطن في بغداد استئناف كربلاء تباشر العمل الالكتروني بنظامي اصدار الحجج والقسامات الشرعية بغداد.. إنخفاض طفيف يطرأ على أسعار صرف الدولار