.. -المصدر- haramoon – مجلة حرمون

هاني سليمان الحلبي

ناشر موقع حرمون مدير أكاديمية حرمون للإعلام، مدرّب دوليّ.

Paris

 

 

 

أعود إلى ملفات العام 1976، المصنّفة في سجلات الذاكرة.. مالك من كفرقوق، نور وغسان وغيرهما من عيحا، وغيرنا كثيرون.. يربو العدد عن 20 شخصاً غالبيتنا شباب في منزل دافئ إلى يسار الداخل إلى بلدة عيحا. المناسبة أول آذار. والحدث احتفال بمولد العظيم انطون سعاده. أذكر أن برنامج الحفل كلمتان وبيان.. أعقبته ضيافة من يدي سيدة المنزل أم واجب. كاتو وصفوف وهريسة وشراب ساخن.. سيّد المنزل عمر الشريف. كلّما نظرت إليه، أتوقّعه أن يتكلم باللسان المصري. يا بيه. زيّك. إيه كده. أومال.. لكنه لم يفعل. وضعتُه على مجهر المراقبة والمتابعة والبحث حتى يصحّ الصحيح. أتى الجواب من متحدّث خلف الطاولة شاكراً المضيف عارف حسين أبو لطيف.

***

عدتُ أدراجي إلى منزلنا شرق بلدة راشيا في حارة البيادر. هذه حارة السيول الهادرة شتاء والمروج الخضراء ربيعاً وفي الصيف تعتزّ بأكداس الغلال وغبار التبن يتسلل إلى البيوت من نوافذها، حسب اتجاه الهواء ليكون مع الفلاحين الدارسين على “مكنة الذراوة”، او “الدرّاسة” المعدنية الأحدث منها التي تشغّلها بكرة متصلة بمحرّك الجرار الزراعي. وبقي ذهني مع عمر الشريف الثاني أو المحلي.. كيف تتمكّن أرحام الأمهات من استنساخ الوجوه لتكون أبدع إزميل نحتٍ في الوجود.. لكن لم يطل الوقت حتى عرفت أن المضيف عارف أبو لطيف فنان رسام ونحّات ولم يطل زمنٌ على عودته من البرازيل، وربما لم تمض أشهر على زواجه.. فلا أذكر في تلك المناسبة أننا لمحنا طفلاً في المنزل. وفي كل حال الأطفال في عيحا عندهم عزة نفس كافية وهمومهم لا تبقي لهم متسعاً من العمر. فلا يحشرون أنوفهم في مساحات الكبار. فصرتُ أبحث عن الكيفية التي تجمعني به ليحدّثني عن الفن وأتعرّف إلى أعماله وآرائه. 

***

أتت الفرصة الثانية للقاء. كان في في راشيا ويتّجه مشياً إلى بلدة عيحا. الطقس ربيعي. ومعتدل البرودة والهواء.. تعرّفت إليه. ودعوتُهُ لزيارتنا. فالمنزل قريب ويرتاح قليلاً قبل صعود سُلّم الأكواع المتعرّجة بين البلدتين. قبل دعوتي. بادرت والدتي عندما عرّفها بنفسه إلى الترحيب به، لإعداد القهوة وما تيسّر من حلوى معدّة مسبقاً في المنزل من يديها المباركتين، قبل رفع “الصوبيا” إلى الرف لترتاح من وقيد الحطب وفرقعة اليباس. ولم تنسَ أن تودّعه عندما غادر وتذكيره بالسلام على أهله. كان حوارنا غنياً وطافحاً باللون والمعنى. لمّاحاً بالإشارات والخواطر والأفكار والآراء والمعلومات. عن الرسم والفن والنحت واللون والشعر والمهجر وعيحا والسفر والناس. ربما ساعات مرّت لم أذكر تعدادها. انسجام تامّ في الحديث والتخاطر الروحيّ.. لقد وجدتُ ضالتي أخيراً بعد أن أسكرتني خمرة ريشة الشيخ يونس سنوات طويلة عندما كان جارنا على محطة المحروقات، وعندما افتتح صالون التصوير الخاص به وبقي لسنوات ماركة مسجلة، حيث أتحف واجهته الزجاجية بصور حسناوات لافتات وشيوخ ووجوه حفرت ملامحها في الذاكرة عميقاً. ورغم طول الوقت، قرّر الضيف العزيز أن يتابع سيره إلى بيته، وقررت أن أرافقه لنتابع الحديث الفريد.. وصلتُ معه إلى البيت وهناك أطلعني على مكتبته الفنية وقدّم لي كتاباً للمطالعة لمصطفى فروخ بعنوان “الفن والحياة”. قرأتُه مرات وأعدته بحوار جميل بيننا. كذلك شعر الفنان عارف أنه وجد بي صديقاً شغوفاً بالفن، أعزّيه عن إحجام غالبية الناس حوله وفي منطقة راشيا، خاصة حينذاك، عن الفن. واعتباره لزوم ما لا يلزم “شويّة لون ملطّخ ع قماش” و”شوية فخار بكرة بيتكسّروا” و”هذا الفن ما بطعمي خبز وما بعمّر بيوت”.

***

مرّت سنوات لم نلتق. هو غادر إلى السعودية ليعمل في ما يتوفر له في عمره الخمسينيّ ويعمّر بيته.. وأنا تابعت دهاليز وأنفاق سنواتي تحت احتلال لسنوات حافلة بأخطار، محاولاً العمل بمهن عدة بعد التحرير من التعليم إلى الزراعة إلى التجارة والنتيجة واحدة توقف بعد فترة والعودة إلى الصفر. وكنت في كل مرحلة أبتعد رويداً رويداً عن راشيا حتى استقريت منذ تشرين الثاني 1994 في بيروت إلى تموز 2018. ربما لم نلتق سوى مرّات خلال أكثر من عقدين.

***

حوالى أربعين سنة مرّت، كنت انا ابن الخامسة عشرة لما التقينا أول مرة وهو ابن أربعين عاماً.. وعدنا نلتقي وأنا في نهاية الكهولة أواخر خمسينياتي وهو في أوج الشيخوخة العتيدة على مشارف الثمانينيات. وكلما نلتقي أعقد مقارنات شكلية وتاريخية وفنية ولغوية ونفسية بين النماذج الأربعة، نموذجانا الأولان وما نحن عليه خلال اللقاء. أتفحّص الألوان والأشكال والأحجام والألفاظ والمقاييس والأبعاد.. أفرّق بين المتغيّرات التي غاب الكثير منها في تلافيف الدماغ وثنايا السنوات والعقود وبين الثوابت التي زادتها الأيام والسنوات تجوهراً وعمقاً.. بقيت المفاهيم والقضايا هي ذاتها وتغير كل ما عداها.. بخاصة أن البيت اقترب إلى راشيا وتوغل في الوعر المطلّ على السهل الجميل وابتعد عن سيارات العابرين والخارجين من البلدة. وفي الحالين هو على جرف وادٍ تتصافح فيه الرياح الغربي والشمالي بالشرقي، لتحوّل الشتاء صقيعاً سيبيرياً والصيف عاصفاً بالأهواء اللطيفة ظهراً والبادرة صباحاً وليلاً.. لكنه متقن البناء، مرتفع السقوف. لم ينس مهندسه أو مهندسته أن يتركا فيه مساحة للفن فكانت محترفاً يطلّ على السهل فريداً بعيداً عن الجلبة والزوار والأسرة، ينحدر إليه بدرج، وقريباً في الوقت نفسه.

***

بدأت لقاءاتنا تزداد منذ تموز 2018. وبدأت فكرة التكريم نتداولها بيننا. نحن الثلاثة انا والدكتور منير مهنا والفنان عارف. كانت زيارة لرئيس البلدية وكان جوابه إيجابياً. وكانت متابعة لأشهر وامتدت للسنة التالية، ولم نصل لتحديد موعد لحفل تكريم. لم نعرف السبب الذي كان يحول دونه. ولم يطل الوقت حتى بدأت الناس بإجراءات التباعد لتفكيك العرى، عرى الاجتماع والتواصل واللقاءات وفعالية المجتمع.. سادت حالة من الخضوع والسكون شبه التام. مدن وقرى خلت من أية حركة. سكوت ولزوم بيوت. عزوف عن الأعراس والتعازي. انتشار استخدام مواقع التواصل بدلاً من الزيارات في الصباحات والأمسيات والسلامات والتعازي والتهاني.. وإن خرج بعضهم عن دواعي الحذر مستخفاً أرسل عشرات المدعوّين أو المشاركين إلى المشافي فيمنع التجول في القرية بقرار رسميّ تحرسه قوات عسكرية ويتم إغلاق البلدة على الداخلين ومنع الخروج منها.

***

في صيف هذا العام بدأت حيوية لافتة. غابت كورونا عن التداول حتى انعدمت حالاتها. ربما تعب الفيروس منا واستسلم، وربما انكشفت الكذبة حتى تمّ تدمير الاقتصاد وإفلاس العباد وانهيار البلاد، محلياً وعالمياً. فنهبت الودائع وانتحر الكثير من المودعين وأفلس الباقون ومن تبقى من فلولهم يشنون غزواتهم مدجّجين بأسلحة حقيقية او مزيفة لاسترجاع ما تبقى من أموالهم. أحياناً يوفقون وأحياناً يتمّ الزج بهم في النظارات والسجون.

***

في العام 2022، رأت إدارة اكاديمية حرمون أن تنظم برنامجاً صيفياً للتدريب الرياضي، فكانت 3 دورات في بلدتي عين عطا وعيحا، وفي المدرسة اللبنانية الكندية، توّجت بتوزيع شهادات على المشاركين باحتفالين، في عين عطا والكندية، وفي دورة عيحا تمّ توزيعها عبر صفحة أكاديمية حرمون في فيسبوك. وفي الجانب الثقافي، كانت الخطة عقد لقاء علمي ثانٍ في سياق مئوية الثورة السورية الكبرى، استقرّ موعده في نهار السبت 22 تشرين الأول 2022 الماضي، برعاية وزارة الثقافة، والحدث الثاني تكريم الفنان عارف أبو لطيف واستقر موعده على اليوم، نهار الأحد 20 تشرين الثاني لمناسبة الاستقلال الوطني، برعاية وزارة الثقافة أيضاً.

***

التكريم الرسمي للفنان المبدع النحات عارف أبو لطيف وإن تأخر كثيراً لكنه بقي واجباً على كل منّا نحوه، ونحو الأجيال حتى ننقذ الروح من مطارق العقلية القديمة التي تريد تحطيم كل قوة جديدة فينا. فليست تماثيل الطين شويّة فخار. بكمشة طين تمّ تجسيد قادة وعظام في كل مجال ومضمار. وكل كمشة طين تحوّلت او قابلة لأن تتحول إلى أيقونة بين أنامل المبدع أبو لطيف إلى مشروع فني ووطني متكامل. وما ينبغي أن يكون في السنوات المقبلة، إن أطال الله بعمره بيننا، أن نستحدث دورات في الصيف، لينقل معارفه ومهاراته للجميع من الفتية والناشئة، ويكون هذا هو التكريم الأهم له بتأسيس جيل من الفنانين في هذه المنطقة.

***

للفنان المبدع عارف أبو لطيف كل تكريم مستحق، ولأسرته الصابرة كل التقدير والدعم، وعلى ذويه ورفقائه واجب الاحتضان، وعلينا واجب الوفاء.

إضغط هنا للأطلاع على مصدر الخبر في haramoon – مجلة حرمون

اترك تعليقا
آخر الأخبار
العثور على طبيب الاسنان المتقاعد "فيصل الحويزي" مقتولا داخل منزله بالنجف اندلاع حريق داخل مستشفى كمال السامرائي في بغداد الغريباوي: مصرون على تمرير قانون عطلة عيد الغدير بالجلسة المقبلة مصافي نفط بدائية لمتنفذين في كردستان العراق تضاعف الإصابات السرطانية غاز البصرة تصدر أول شحنة من غاز البروبان شنيشل: مستمر مع المنتخب الأولمبي ولا أنوي الاستقالة جرعات مثلية عبر "ألوان بريئة".. تحذير للعائلات العراقية من "الطين الاصطناعي" نائب يحدد استراتيجية السوداني لتطوير اهم الانظمة الدفاعية للعراق الدفاع تنفي إحالة عدد من الضباط ممن هم برتبة فريق إلى التقاعد منتخبنا الأولمبي يتأهل إلى أولمبياد باريس بعد فوزه على نظيره الإندونيسي السوداني يبارك للمنتخب الأولمبي تأهله إلى أولمبياد باريس اعتقال تركي قتل آخر إثر خلاف اجتماعي في أربيل السوداني ورومانوسكي يناقشان الأسس الخاصة بالانتقال بالعلاقات الثنائية بين البلدين مختص يرسم خارطة طريق لقانون سلم رواتب الموظفين وزير النفط: نحتاج الى 400 مليون قدم مكعب لتشغيل محطتي كهرباء الانبار وعكاز إحالة 18 ضابطا برتبة فريق الى التقاعد من ضمنهم العلاق والشمري وجودت النفط النيابية: الخلاف بين المركز والاقليم سينتهي بأقرب وقت تمديد صلاحيات مدير صحة كركوك 3 أشهر (وثيقة) الرافدين يطلق رواتب المشمولين ضمن شبكة الحماية الاجتماعية أزمة المياه تطيح بالعديد من مشاريع الإنعاش البيئي: الاستمطار الصناعي لن يحلها ضبط معمل لصناعة المواد المخدرة بعملية أمنية خارج حدود السليمانية إحالة 18 ضابطا برتبة فريق الى التقاعد ضمنهم العلاق والشمري وجودت الداخلية تضبط معملا لصناعة المواد المخدرة في السليمانية الرافدين يعلن رفع رواتب المتقاعدين لشهر أيار النزاهة تضبط موظفا في دائرة صحة النجف متهما بتزوير تقارير طبية